إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا .. بسم الله ذي الشأن، شديد البرهان، عظيم السلطان، ما شاء الله كان، أعوذ بالله من الشيطان ، بسم الله وكفى، والصلاة والسلام على حبيبه المصطفى، وعلى عباده الذين اصطفى .. أما بعد ..
كثيرا ما نسمع وسط مجتمعنا من يقول : هذا حيي، أو استحى من كذا، أو من فلان، فيا ترى، هل نحن مدركون فعلا ما هو الحياء، وهل الحياء بين البشر فقط؟ هل نستحي من بعضنا وننسى خالقنا؟ ربما نعم وربما العكس وكن قبل هذا علينا أن نقول، ماذا نعني بالحياء؟
إن أصل كلمة الحياء هو الحياة، وإذا استحى أحد من شيء دل ذلك أنه من قوة نبض الحياة في قلبه استحى فعل ذلك الشيء، ومن هنا نجد أن معنى الحياء انقباض النفس وتماسكها وتجلدها أمام الرذيلة فلا تهين نفسها أمام الناس عامة، وأمام الإنسان بذاته خاصة، وأمام الله أولا وآخراً. ولأجل هذا يمكن القول أن الحياء عاطفة حية مزروعة في داخل الإنسان، أرضها القبل، ونتاجها الأخلاق الحليمة والتصرفات السليمة... هي عاطفة متسمة بالنفس البشرية ...
هي عاطفة تحيي القلب بعد أن وافته المنية ... هي عاطفة تمحي من قاموس الحياة الدنيوية كل الكلمات اللاأخلاقية منها الغش والمعصية، الخطيئة والرذيلة، السرقة والزنا، الخيانة والخديعة وتجعلها تهفو وتهتف بأعلى صوتها لتقول : لا بل أنا أرقى من هذا وأدهى من أن أقع في حبال الشياطين وأنقاد للشهوات.
يقول العلماء: إن الحياء من الله له ستة أشكال: ولو استطعنا تطبيق هذه الأخيرة علينا أن نهنئ أنفسنا ونضع البشرى بين أيدينا لأننا قمنا بتحقيق علامة من علامات حبنا لخالقنا وبذلك نكون قد نلنا شرف حبه وكرامة إرضائه، وكلنا نعلم أنه إذا أحب الله عبدا كان سمعه الذي يسمع به، وعينه التي يبصر بها، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، أنعم بها من نعمة وأنعم به من إله سبحانه لا إله إلا هو.
أما أول صورة للحياء حياء ارتكاب المعصية وهو ما يسميه العلماء حياء الجناية وأبرز مثال على ذلك مثال سيدنا آدم عليه السلام حينما أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها، عندها ظل يجري ويهرول مع زوجته حواء داخل الجنة فسأله جل جلاله: إلى أين يا آدم أفرارا مني؟ فرد عليه قائلا: لا يا ربي بل حياء منك !
يا له من حياء، ويا له من خلق، فهل منا من ارتكب يوما معصية وذرف دموعا حياء من الله، هل فينا من أدركه الأرق حياء من الله ساعة ارتكاب الفاحشة، أرجو أن يكون الجواب "نعم حدث هذا".
وثاني صور الحياء حياء التقصير والمعنى المراد من التقصير هو عدم عبادة الله حق عبادته والتقصير في بعض الأعمال، وهنا نضرب مثالا -ولله المثل الأعلى- وهو حياء الملائكة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أطت السماء -أي ثقلت- وحق لها أن تئط، ما فيها موضع ثلاثة أصابع إلا وملك ساجد، أو ملك راكع، أو ملك قائم لله عز وجل، حتى إذا قامت القيامة يقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك" [رواه الإمام أحمد]
يا للهول، نحتار أنضع علامة تعجب أم الأجدر أن نسجل علامة استفهام؟ هل نتعجب من هذا الحديث ونطأطئ رؤوسنا خجلا أم نتساءل هل عبدنا ربنا كما يحبه ويرضاه؟ أم نكتفي بالإسراع في الصلاة للانصراف إلى هموم الدنيا مدعين أننا قد أدينا واجباتنا... ماذا ننتظر يا ترى؟ متى نحس بخالقنا وتحلو جلستنا معه ووقوفنا بين يديه فلا نحب مغادرة صلاتنا ولا نتمنى مفارقة صيامنا... نسأل الله تعالى أن يضع حدا لهذا التقصير.
والنوع التالي من الحياء هو حياء استشعار نعم الله علينا، فقد انهالت هذه الأخيرة علينا ونجده تعالى يؤكد هذا المعنى في قوله " وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها " وفي المقابل نجده صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: "لا أحصي عليك ثناء أنت كما أثنيت على نفسك" ومن قلة حيائنا ومظاهره هو استغلال نعمه تعالى فيما لا يرضيه عنا، وهبنا السمع ويرانا نسمع يبعدنا عنه، أعطانا نعمة البصر وها نحن أولاء نشاهد ما لا يرضيه، رزقنا النطق وها هي الغيبة وصديقتها النميمة جزأين من حياة أكثر أفراد المجتمع، أما اليد فهنا سرقة، وهنا قتل، وهناك أذى وهناك ضرب مبرح وغيرها من التصرفات اللاأخلاقية المذمومة وأمام كل هذه النعم لا نستطيع حتى أن نتفوه بكلمة "الحمد لله" رغم أن شكرنا بالنسبة لهذه النعم أقل من القليل أضعف من الضعيف.
نمر إلى النوع الرابع وهو حياء العبودية كحياء النبي صلى الله عليه وسلم حينما أراد أن تكون القبلة إلى الكعبة ولكنه كان ملزما أن يتوجه إلى بيت المقدس ولم يجترئ أبدا ودعا الله أن يحول القبلة حياء منه غير أن فضل الله وسع كل شيء لبى رغبة حبيبه المصطفى دون أن يبوح بها في قوله "قد نرى تقلب وجهك في السماء" وهنا قال "فلنولينك قبلة ترضاها" أنعم به من حياء وأبشر بها من رحمة.
وخامس أنواع الحياء هو حياء المحبة، فقد قلنا أن من علامات حبنا لله حياؤنا منه وبذلك تخشع الجوارح وتدمع العين وينبض القلب، وهنا نجده عليه أفضل الصلاة والسلام يدعو قائلا: "اللهم ارزقني حبك وحب من أحبك وحب عمل يقربني لحبك".
وآخر أنواع الحياء وتتمتها حياء إجلال الله عز وجل مالك الملك ذو الجلال والإكرام، كحياء سيدنا جبريل عليه السلام عندما دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى فقال: "التفت إلى جبريل فإذا هو كالحلس البالي"والحلس البالي هو القطعة البالية من القماش، وهذا تشبيه رائع وتعبير أروع عن شده حياء سيدنا جبريل من الله عز وجل لجلاله ولعظيم سلطانه.
بعد هذا كله ما علينا إلا أن نراجع أنفسنا ونتدارك ما فاتنا... نعم فنحن لم نقدر الله حق قدره فهو الخالق وهو المنعم وهو الجليل وهو الحبيب .... وهو الغفور الرحيم .. الآن نضع نقطة على السطر لنطح السؤال التالي : هل يمكن ان ننمي حياءنا؟ وكيف ذلك؟ والجواب ببساطة هو نعم أما الكيفية فهي أبسط، فلننظر إلى رحمة الله بنا ونستحي منه، ألا نستحي منه بعد رحمته التي وسعت كل شيء؟ ألا تضطرب قلوبنا وتدمع أعينا عندما نسمع الحديث القدسي التالي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه : "إني والإنس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، أرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل وشرهم إلي صاعد، أتودد إليهم بالنعم وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أفقر ما يكونون إلي، أهل ذكري أهل مجالستي، من أراد أن يجالسني فليذكرني، أهل طاعتي أهل محبتي، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا إلي فأنا حبيبهم، وإن أبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب، من أتاني منهم تائبا تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني ناديته من قريب أقول له: أين تذهب، ألك رب سواي؟ الحسنة عندي بعشر أمثالها وأزيد، والسيئة عندي بمثلها وأعفو، وعزتي وجلالي لو استغفروني منها لغفرتها لهم"والله والله، إن الدمعة لتنزل الآن وفي هذه اللحظة، يا لنا من عباد، فعلا إن قلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة، ومن لم يستشعر هذا الحديث جيدا عليه ان يقراه مرة أخرى وأخرى وأخرى وإن لم ينفعه فهناك خلل ما فليراجع نفسه من جديد.
والخطوة الثانية لإنماء حيائنا هو النظر إلى نعم الله علينا، بعد كل هذا ما زلنا نعصي ربنا، ألا نستحي ام ما رزقنا إياه لم يرضنا ولم نقتنع به، وإن النفس لأمارة بالسوء ولكن ندعو فنقول اللهم اجعلنا نرضى بقضائك ونقنع بعطائك يا ذا الجلال والإكرام.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم "الحياء كله خير" [رواه مسلم] كما يقول في حديث رواه الترمذي: "الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء والجفاء في النار" ونقيض الحياء هو البذاء ومعناه سوء الأدب أما الجفاء فهو غلظة القلب.
إن للحياء دور مهم في المجتمع ومكانة عظمى بين أفراده، فإن لم يكن الفرد حييا لن يبر بوالديه، ولن يتوب إلى الله ولن يترك الكذب أو السرقة ولن ولن ولن، وهنا نقول أن الأخلاق مردها إلى الحياء وإن خير قدوة وخير أخلاق هي أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام ولذلك كان أشد حياء من العذراء في خدرها [مخدعها] فلو كان خلق الحياء مزروعا حقا في داخلنا صلح الفرد وصلاح الفرد يعني صلاح المجتمع، أما إذا نزع الحياء من قلب أحدنا فلينتظر الهلاك، قال صلى الله عليه وسلم : " ( إن الله عز وجل إذا أراد أن يهلك عبدا نزع منه الحياء ، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه الا مقيتا ممقتا (مبغضا) ، فإذا لم تلقه الا مقيتا ممقتا نزعت منه الأمانة ، فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه الا خائنا مخوّنا ، فإذا لم تلقه الا خائنا مخونا ، نزعت منه الرحمة ، فإذا نزعت منه الرحمة لم تلقه الا رجيما ملعّنا ، فإذا لم تلقه الا رجيما ملعّنا نزعت منه ربقة الاسلام ) [رواه ابن ماجة] .. يا له من معنى، ألهذه الدرجة عظم الله ورسوله الحياء فجعل الهلاك من عدم الحياء !!
هذا وما زالت الأحاديث والدلائل تنهال علي فموضوع الحياء ثري للغاية، ولهذا سندرج بعض الأحاديث والأقاويل عن الحياء لنخرج معا بهذه النتيجة "الحياء منبت خير الأخلاق" حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" [رواه البخاري] كما قال أيضا: "إن لكل دين خلق وخلق الإسلام الحياء" [رواه ابن ماجة] .. لذلك نقول أكمل الناس حياة أكملهم حياء، ويقول العلماء: من استحى من الله بلغ مقام الأولياء، نسأل الله أن يلحقنا بأوليائه ويكتبنا ممن يحبونه ويستحيون منه.
رغم أن الحديث عن الحياء ما زال مطولا ولكن علينا أن ننهيه بقوله صلى الله عليه وسلم "لا حياء في الدين" فهذا الحديث لا يدل على انه ليس هناك حيا في الدين وإنما يقصد أنه لا حياء في شرح بعض الأمور الدينية وتوضيحها والتنبيه إلى بعض الأحكام الضرورية كأحكام الحيض وغيرها من الأمور التي تكون موضع حياء فلا يتمكن الإنسان من الاستفسار عنها وتعلمها فيظل معلقا دون جواب وهذا الحديث إنما ورد ليقول لنا لا استحياء في شرح بعض الأحكام الدنيوية لمعرفتها وتطبيقها على أكمل وجه.
منقــــــــول